بلغ عجز الميزان التجاري للولايات المتحدة 900 مليار دولار في عام 2024، حيث بلغت قيمة الواردات 4.1 تريليون دولار، مقابل صادرات بقيمة 3.2 تريليون دولار.
ومن الجدير بالذكر أن الولايات المتحدة تُصدّر أيضًا ما يُعرف بـ”الممتلكات غير المنظورة” بقيمة تُقدّر بـ1.1 تريليون دولار، وتشمل خدمات البرمجيات، وأفلام هوليوود، والموسيقى، وإعلانات وسائل التواصل الاجتماعي، بالإضافة إلى السياحة الوافدة (التي تُدرّ وحدها نحو 200 مليار دولار سنويًا). كل ذلك يدخل في إطار “القوة الناعمة” ويُعد مصدر دعم حقيقي للاقتصاد الأمريكي.
هناك مدرستان فكريتان في التعامل مع هذا العجز:
المدرسة الأولى ترى أن العجز التجاري يضر بالمصلحة الأمريكية، وتعتبره نتيجة لاستغلال الدول الأخرى التي لا تفتح أسواقها أمام المنتجات الأمريكية، إما من خلال تعريفات جمركية أو حواجز غير مباشرة. ورغم أن هذا الطرح يحمل شيئًا من الصحة، إلا أن الولايات المتحدة نفسها تفرض أيضًا قيودًا على بعض الواردات. هذه المدرسة تدعو إلى تصحيح الميزان التجاري من خلال فرض تعريفات صارمة، ولو أدى ذلك إلى حرب تجارية، فإنهم يرون أن أمريكا ستنتصر في النهاية. وهذه هي المدرسة التي تتبناها الإدارة الأمريكية الحالية بحماس كبير وربما بتشدد مفرط.
المدرسة الثانية تعترف بوجود عجز تجاري، لكنها تُرجعه إلى أسباب أخرى، أهمها أن كثير من المنتجات الأجنبية تُباع في السوق الأمريكي بأسعار منخفضة جدًا مقارنة بتكلفة إنتاجها محليًا، فضلًا عن أن الولايات المتحدة تتعامل بالدولار، وهي عملة عالمية تطبع منها ما تشاء.
هذه المدرسة ترى أن من الأفضل استخدام التعريفات الجمركية بطريقة انتقائية وذكية. فعلى سبيل المثال، فرضت إدارة بايدن تعريفة جمركية بنسبة 100% على السيارات الكهربائية المستوردة، في خطوة تهدف إلى دعم شركات أمريكية مثل “فورد” و”جنرال موتورز” في دخول هذا السوق.
ويتفق معظم الاقتصاديين ورجال المال والأعمال على أن المدرسة الثانية أكثر واقعية وتصب في مصلحة الاقتصاد على المدى الطويل. ومع ذلك، تصر الإدارة الحالية على تبني المدرسة الأولى، رغم التحذيرات من أن نتائجها قد تكون كارثية على الاقتصاد الأمريكي وربما العالمي أيضًا. وكما قال أحدهم: “الأمر أشبه بمن يُشعل النار في منزله فقط لإزعاج جاره بالدخان”.
دعونا نحلل التأثير الفعلي لهذا التوجه المتشدد في رفع الرسوم الجمركية، بالنظر إلى جانبي الصادرات والواردات:
الصادرات الأمريكية:
من المتوقع أن تتراجع لسببين رئيسيين: الأول الردود الانتقامية من دول مثل الصين، وتهديدات من أوروبا وأستراليا وكندا بفرض رسوم مضادة. الثاني المقاطعات الشعبية وتراجع القوة الناعمة، وهو ما قد يكون أكثر خطورة على المدى الطويل. فعلى سبيل المثال، شهدت كندا حملات شعبية لمقاطعة المنتجات الأمريكية والدعوة لعدم السفر للسياحة في أمريكا، وفي أوروبا وُجّهت دعوات لمقاطعة سيارات “تسلا” وعدم مشاهدة الأفلام الأمريكية، وفي الصين هناك استعداد لمقاطعة فول الصويا الأمريكي.
في ظل هذه الأجواء، لا أحد يعلم على وجه التحديد كيف ستكون قيمة الصادرات الأمريكية في عام 2025، ولكن انخفاضها بنسبة 20–30% ليس أمرًا مستبعدًا.
الواردات إلى أمريكا:
نعم، ستنخفض أيضًا، وستجني الخزينة الأمريكية إيرادات من التعريفات، ولكن هذا لا يعني تحسنًا اقتصاديًا فعليًا. فغالبًا ما يقوم المستورد بنقل جزء كبير من تكلفة التعريفة إلى المستهلك، الذي سيشتري السلعة نفسها بسعر أعلى. في حساب طريف، تبيّن أن الزيادة في تكلفة شراء كوب قهوة يوميًا من “ستاربكس” على مدار عام قد تصل إلى 150 دولارًا بسبب الرسوم الجمركية.
المكاسب المحتملة من التعريفات:دخول أموال إضافية إلى خزينة الدولة (على حساب المستهلك)، دعم الصناعات المحلية (ولكن ذلك يتطلب عدة سنوات)، خلق وظائف في قطاع التصنيع (رغم أن سوق العمل لا يعاني حاليًا من بطالة تُذكر)
الخسائر المتوقعة من التعريفات: ارتفاع معدلات التضخم، تباطؤ اقتصادي وربما ركود، اضطرابات في الأسواق المالية، تآكل القوة الناعمة الأمريكية، زيادة البطالة على المدى القصير.
الرهان الأساسي:
قد يتدخل الاحتياطي الفيدرالي الأمريكي بخفض أسعار الفائدة، وهو احتمال وارد جدًا، لكنه سيكون أشبه بعملية “إنقاذ طارئة” أكثر من كونه إجراءً داعمًا لقوة الاقتصاد.
نقلا عن بوابة الأهرام
أحمد حسين قنديل